التَّوارِي
من البطْش حلٌّ مؤقَّتٌ ريثما يبرُقُ الفرجُ
قرأتُ كتاب ( المتوارين ) لعبدِ الغني الأزديِّ ، وهو لطيفٌ جذَّاب ،
يتحدَّث فيه عمَّن توارى خوفاً من الحجاجِ بن يوسف ، فعلمتُ أنَّ في الحياةِ فسحةً
، وفي الشَّرِّ خياراً ، وعنِ المكروهِ مندوحةً أحياناً .
وذكرتُ بيتينِ للأبيورديِّ عن تواريهِ ، يقولُ :
تستَّرْتُ مِن دهري بظِلِّ جناحِهِ فعيني ترى
دهري وليس يراني
فلو تسألِ الأيام عنُي ما دَرَتْ وأين مكاني ما
عرفت مكاني
هذا القارئُ الأديبُ اللامعُ الفصيحُ الصَّادِقُ ، أبو عمرو بنُ
العلاءِ ، يقولُ عن مُعاناتِه في حالة الاختبار : « أخافني الحجَّاجُ فهربتُ إلى
اليمن ، فولجتُ في بيتٍ بصنعاء ، فكنتُ من الغدواتِ على سطحِ ذلك البيتِ ، إذْ
سمعتُ رجلاً يُنشدُ:
رُبَّما تجزعُ النُّفوسُ من الأمـ ـرِ لهُ
فُرْجَةٌ كحلِّ العِقالِ
قال : فقلتُ : فُرْجةٌ . قال : فسُررتُ بها . قال : وقالَ آخرَ : مات
الحجّاجُ . قال : فواللهِ ما أدري بأيِّهما كنتُ أُسَرُّ ، بقولهِ : فرْجةٌ . أو
بقولِه : مات الحجّاجُ » .
إنَّ القرار الوحيد النافذ ، عند من بيده ملكوتُ السماواتِ والأرضِ *
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * .
توارى الحسنُ البصريُّ عنِ عين الحجَّاج ، فجاءه الخبرُ بموتِهِ ،
فسجد شكراً اللهِ .
سبحان اللهِ الذي مايز بين خلْقِه ، بعضُهم يموتُ ، فيُسجدُ غيْرُهُ
للشُّكر فرحاً وسروراً * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا
كَانُوا مُنظَرِينَ * . وآخرون يموتون ، فتتحوَّلُ البيوتُ إلى مآتِم ، وتقرحُ
الأجفانُ ، وتُطعنُ بموتهم القلوبُ في سويدائِها .
وتوارى إبراهيمُ النَّخعِيُّ من الحجَّاج ، فجاءه الخبرُ بموتِهِ ،
فبكى إبراهيمُ فرحاً .
طفح السرورُ عليَّ حتى إنني منْ عظمِ ما قد
سرَّني أبكاني
إنَّ هناك ملاذاتٍ آمنة للخائفين في كَنَف أرحمِ الراحمين ، فهو يرى
ويسمعُ ويُبصرُ الظالمين والمظلومين ، والغالبين والمغلوبين * وَجَعَلْنَا
بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً * .
ذكرتُ بهذا طائراً يسمَّى الحُمَّرة ، جاءت تُرفرفُ على رسولِ الله -
صلى الله عليه وسلم - ، وهو جالسٌ مع أصحابِه تحت شجرةٍ ، كأنها بلسانِ الحالِ
تشكو رجلاًَ أخذ أفراخها منْ عشِّها ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( منْ فجع
هذه بأفراخِها ؟ رُدُّوا عليها أفراخها )) .
وفي مثل هذا يقولُ أحدُهم :
جاءتْ إليك حمامةٌ مُشتاقةٌ تشكو إليك بقلبِ صبِّ واجفِ
منْ أخبر الورْقاء أنَّ مكانكم حَرَمٌ وأنَّك ملجأٌ للخائِفِ
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : واللهِ لقد فررتُ من الحجَّاج ، حتى استحييتُ
من اللهِ عزَّ وجلَّ . ثم جيءَ به إلى الحجّاج ، فلمَّا سُلَّ السيفُ على رأسِه ،
تبسَّم . قال الحجاجُ : لِم تبتسمُ ؟ قال : أعجبُ منْ جُرأتك على اللهِ ، ومن
حِلْمِ الله عليك . يا لها من نفْسٍ كبيرةٍ ، ومن ثقةٍ في وعدِ اللهِ ، وسكونٍ إلى
حُسْنِ المصيرِ ، وطِيبِ المُنقلَب . وهكذا فليكُنِ الإيمانُ .
*********************